إنتصف المساء..
بل وزادت عليه نصف ساعة رملية..
يقف في شرفته القرمزية..
ينظر إلى القمر القابع في كبد السماء..
يحرك نظره تجاه المعبد المزدان بأنواره الغنّاء..
تتعالى أصواتٌ بالغناء...
يقرر الذهاب إلى وسط المدينة..
يرتدي نعليه..
وبعض الثياب البالية القديمة..
لا لفقر مدقع بل لبساطة طباعه ، وأخلاقه الرزينة..
يرتدي وشاحه الأبيض الشهير في تلك الأوقات..
فكلها ساعات ويبدأ جولته الأخيرة في كل الحلبات..
يرى جاره يدخل مترنحاً لمنزله وفي يده غانية..
ألِأنَّ إمرأته كانت جارية،يمتطيها كل الرجال؟؟
أم لأن في طبعه الغدر؟؟
((أنّى لعاشق ولهان .. كانت قصته تُحكى بكل البلدان .. أن يخونها قبل ساعات من الفجر؟))
يكمل مسيرته الهادئة صوب المعبد القديم..
يلتقي بالحراس..
يخبروه أن المعبد يُجهَّز بكل الحماس..
"لا يمكنك الدخول الآن"
بنبرة يهتز لها الكل عدا صاحبها الجنرال..
"أيمكنني مداعبة بعض الرمال؟"
كتقليد يتبعه منذ عهد قديم بالقتال..
يداعبها بأنامله ثم يغادر...
دقت الطبول..
إرتدى ثيابه الحديدية..
وقف في منتصف الساحة الدائرية..
"فليحيا السيزر .. يحيا السيزر"
هتاف يدوّي في أرجاء المكان..
رفع رأسه لأعلى مكان..
"هذه آخر معاركي هاهنا .. فهل لي أن أتحدث في حضرة عظمتكم سيد هذا الزمان؟"
أشاح السيزر بيده وأشار برأسه كعلامة على قبول مقتضب..
"سيدي ، شهد هذا المعبد القديم صولات وجولات لي ولأسلافي من المحاربين .. زُهِقَت أرواح وأرواح .. ذَهَبَت هباءًا .. ما فائدة الموت إن لم يكن بلا شرف .. بلا رسالة أو سبيل صحيح .. ألم نكن نحن أسياد هذا الكون الفسيح؟"
السيزر مقاطعاً..
"أصمت!!"
تعالت الهمهمات .. في كل الجنبات..
"نحن محاربون .. فما بنا الآن فاعلون؟"
ينظر للغوغاء بحزم..
"لقد سئمت القتال بلا هوية"
السيزر:"أظن أن حياتك أصبحت منهية"
"سيدي السيزر ، وماذنب الأبناء والزوجات؟"
السيزر:"إنهم عبيد قيمتهم هي الفتات"
"إنهم أهل المدينة من كل الجنبات"
السيزر:"أَخرِجُ
"هذا هو آخر قتال .. إن مِت فحياتي قد ذهبت هباء"
تعالت الأصوات كالعادة .. بإسم فارسهم الأخير .. والسخط يملأ القلوب لظلم السيزر الحقير...
فاز بالمعركة .. لكنه لم ينجو من أيدي السيزر الساحقة..
صلبوه ؛ فجلدوه .. ولمفارقة الحياة أعدوه..
وقف السيزر بتحدي ، ينظر إليه نظرة متحدية
فحياته في نظره فانية..
"عِشتَ عمرك فارساً من فرسان المعبد .. ماتوا جميعاً وأصبحت أنت الفارس الأخير .. وتريد أن تصبح الفارس النبيل !!"
" الموت لمن تحدى السيزر أمام جموع الجماهير"
"فلتمت بلا زوجة أو طفل صغير"
نظرة رامقة .. إبتسامة واثقة..
صمت مطبق...
وهو يُساق في طريق الموت .. فر هارباً بعد الإطاحة بالحراس..
تسلل إلى بيت الكاهن الكبير..
"هل كنت مخطئاً؟"
الكاهن:"نعم يا عزيزي"
"ولكن لم؟!"
الكاهن:"هل تجد من الحق .. أن يأتيك رجل غريب فيطردك من بيتك لإعلاء شأنه دون وجه حق؟"
"لقد فهمت"
"ولكنْ. أيُّ حياة تلك ، أن يتقاتل المحاربون من أجل ضحكات المُغيَّبون؟"
الكاهن:"إرحل عن هنا صديقي .. فالمدينة أصبحت فانية والمعبد أصبح حطام .. منذ أن أمسى معتج بالزحام"
رحل عن البلاد .. ألقى بسيفه الجلّاد..
ذهب إلى الجوار .. خلف البحار والأنهار..
بلاد تحت الحصار..
إنها فعلة الأقدار..
"من أنت؟"
صوت يخترق السكون..
فيجيب بِرَدٍ مقتضب..
"عابر سبيل"
"هل أنت من مدينة المعبد القديم؟ تحدث ولا تخف"
"أنا كوميدوس .. فارسٌ من فرسان المعبد القديم .. مصارعٌ حزين .. فارٌ من بطش السيزر اللعين .. باحثٌ عن ذات تاهت تحت أنهار من الدم الذاهب بلا جدوى .. نادمٌ على عُمرٍ قد ضاع خلف حلم البلاد الممتدة الفسيحة .. قومي هم الغوغاء الباحثون عن متعةٍ زائلة وعن إستقرار زائف .. هاربٌ من صفتي وذاتي"
تزوج من إمرأة صالحة كان لها خير الرجال..
سقطت روما ، وعاشت بلاد ما وراء الأدغال..
تحطمت المدينة , وصارت مبانيها آثارٌ تُمَجّد..
وصار هو "آخر فرسان المعبد" ...